فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار.
وقال الفرزذق:
مستقبلين شمال الشام نضربهم ** بحاصب كنديف القطن منثور

والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة.
تارة مرة وتجمع على تير وتارات.
قال الشاعر:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ** فيبدوا وتارات يجم فيغرق

القاصف الذي يكسر كل ما يلقى، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفًا كسره.
وقال أبو تمام:
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ** عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

وقيل: القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر.
{ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيمًا وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلاّ إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورًا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا ثم لا تجدوا لكم وكيلًا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا}.
لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته وتسويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء، فذكر إحسانه إليهم بحرًا وبرًا، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده.
وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو.
والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح، ومعنى {ضل} ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلهًا فيشفع أو ينفع، أو {ضل} من تعبدونه إلاّ الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلاّ هو ولا يرجون لكشف الضر غيره.
ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق، وجاءت صفة {كفورًا} دلالة على المبالغة، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفًا بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم الله.
وقال الزجاج: المراد بالإنسان الكفار، والظاهر أن {إلاّ إياه} استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله: {من تدعون} إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله.
وقيل: هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلاّ إلى الله والهمزة في {أفأمنتم} للإنكار.
قال الزمخشري: والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى.
وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير، وأن التقدير فأمنتم.
وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي {أفأمنتم} أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم، وانتصب {جانب} على المفعول به بنخسف كقوله: {فخسفنا به وبداره الأرض} والمعنى أن نغيره بكم فتهلكون بذلك.
وقال الزمخشري: أن نقلبه وأنتم عليه.
وقال الحوفي: {جانب البر} منصوب على الظرف، ولما كان الخسف تغييبًا في التراب قال: {جانب البر} و{بكم} حال أي نخسف {جانب البر} مصحوبًا بكم.
وقيل: الباء للسبب أي بسببكم، ويكون المعنى {جانب البر} الذي أنتم فيه، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلاّ فلا يلزم من خسف {جانب البر} بسببهم إهلاكهم.
قال قتادة: الحاصب الحجارة.
وقال السدّي: رام يرميكم بحجارة من سجيل، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم {لا تجدوا} عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم.
و{أم} في {أم أمنتم} منقطعة تقدر ببل، والهمزة أي بل {أمنتم} والضمير في {فيه} عائد على البحر، وانتصب تارة على الظرف أي وقتًا غير الوقت الأول، والباء في {بما كفرتم} سببية وما مصدرية، أي بسبب كفركم السابق منكم، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائمًا.
والضمير في {به} عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال.
وقيل عائد على الإرسال.
وقيل: عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق.
والتبيع قال ابن عباس: النصير، وقال الفراء: طالب الثأر.
وقال أبو عبيدة: المطالب.
وقال الزجّاج: من يتبع بالإنكار ما نزل بكم، ونظيره قوله تعالى: {فسواها ولا يخاف عقباها} وفي الحديث: «إذا اتّبع أحدكم على ملىء فليتبع» وقال الشماخ:
كما لاذ الغريم من التبيع

ويقال: فلان على فلان تبيع، أي مسيطر بحقه مطالب به.
وأنشد ابن عطية:
غدوا وغدت غزلانهم فكأنها ** ضوامن غرم لدهن تبيع

أي مطالب بحقه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسندًا إلى الريح والحسن وأبو رجاء {فيغرقكم} بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء، عدّاه بالتضعيف، والمقري لأبي جعفر كذلك إلاّ أنه بتاء الخطاب، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن.
وقرأ الجمهور: {من الريح} بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِى لَكُمُ الفلك في البحر}
مبتدأ وخبر والإزجاءُ السوقُ حالًا بعد حال، أي هو القادرُ الحكيمُ الذي يسوق لمنافعكم الفُلك ويُجريها في البحر {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من رزقه الذي هو فضلٌ من قِبَله أو من الربح الذي هو مُعطيه، ومن مزيدةٌ أو تبعيضةٌ، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائلُ التوحيد وتمهيدٌ لذكر توحيدِهم عند مِساسِ الضرِّ تكملةً لما مر من قوله تعالى: {فَلاَ يَمْلِكُونَ} الآية {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ} أزلًا وأبدًا {رَّحِيمًا} حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهّل عليكم ما يعسُر من مباديه، وهذا تذييلٌ فيه تعليلٌ لما سبق من الإزجاء لابتغاء الفضلِ، وصيغةُ الرحيم للدِلالة على أن المرادَ بالرحمة الرحمةُ الدنيويةُ والنعمةُ العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر في البحر} خوفَ الغرقِ فيه {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ} أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تدعون من دون الله من الملائكة أو المسيحِ أو غيرهم {إِلاَّ إِيَّاهُ} وحده من غير أن يخطُر ببالكم أحدٌ منهم وتدعوه لكشفه استقلالًا أو اشتراكًا، أو ضل كلُّ مَنْ تدعونه عن إغاثتكم وإنقاذِكم ولم يقدِر على ذلك إلا الله، على الاستثناء المنقطع {فَلَمَّا نجاكم} من الغرق وأوصلكم {إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} عن التوحيد أو اتسعتم في كُفران النعمة {وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} تعليلٌ لما سبق من الإعراض.
{أَفَأَمِنتُمْ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} الذي هو مأمنُكم أي يقلِبه ملتبسًا بكم أو بسبب كونِكم فيه، وفي زيادة الجانبِ تنبيهٌ على تساوي الجوانب والجهاتِ بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى وقهرِه وسلطانِه، وقرئ بنون العظمة {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} من فوقكم وقرئ بالنون {حاصبا} ريحًا ترمي بالحصباء {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلًا} يحفظكم من ذلك أو يصرِفه عنكم فإنه لا رادَّ لأمره الغالب.
{أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} في البحر، أُوثرت كلمةُ في على كلمة إلى المنبئةِ عن مجرد الانتهاء للدِلالة على استقرارهم فيه {تَارَةً أخرى} إسنادُ الإعادة إليه تعالى مع أن العَوْدَ إليه باختيارهم باعتبار خلقِ الدواعي الملجئةِ لهم إلى ذلك، وفيه إيماءٌ إلى كمال شدةِ هولِ ما لاقَوْه في التارة الأولى بحيث لولا الإعادةُ لما عادوا {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} وأنتم في البحر وقرئ بالنون {قَاصِفًا مّنَ الريح} وهي التي لا تمر بشيء إلا كسرَتْه وجعلتْه كالرميم، أو التي لها قصيفٌ وهو الصوتُ الشديد كأنها تتقصّف أي تتكسر {فَيُغْرِقَكُم} بعد كسر فُلْكِكم كما ينبىء عنه عنوانُ القصفِ، وقرئ بالنون وبالتاء على الإسناد إلى ضمير الريح {بِمَا كَفَرْتُمْ} بسبب إشراكِكم أو كفرانِكم لنعمة الإنجاء {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي ثائرًا يطالبنا بما فعلنا انتصارًا منا ودَرْكًا للثأر من جهتنا كقوله سبحانه: {وَلاَ يَخَافُ عقباها}. اهـ.

.قال الألوسي:

{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} مبتدأ وخير، وقيل الموصول صفة {رَبُّكُمْ} وهو صفة لقوله تعالى: {الذى فَطَرَكُمْ} [الإسراء: 51] أو بدل منه وذلك جائز وإن تباعد ما بينهما اه، وفيه ما فيه، وأصل الأزجاء السوق حالًا بعد حال والمراد به الإجراء وكأن اختياره عليه لما أنه أدل منه على القسر وهو أوفق بالمقام وأعظم في الأنعام أي هو سبحانه وتعالى القادر الحكيم الذي يجري لنفكم السفن في البحر بالريح اللينة وبالآلات حسبما جرت به عادته تعالى: {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} تصريح بالنفع أي لتطلبوا من رزقه الذي هو فضل من قبله سبحانه أو من الربح الذي هو جل شأنه معطيه، ومن تبعيضية وتفسير الفضل بالحج أو الغزو غير مناسب، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد الذي هو المراد الأصلي من البعثة وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله سبحانه: {فَلاَ يَمْلِكُونَ} [الإسراء: 56] الآية {إِنَّهُ كَانَ} أزلًا وأبدًا {بِكُمْ رَحِيمًا} حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه، وهذا تذليل فيه تعليل لما سبق من الإجاء والابتغاء للفضل، وصيغة الرحيم كما في إرشاد العقل السليم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة، وهو مبني على اختصاص الرحيم بالدنيا كما هو المشهور، وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وقيل بعدم الاختصاص وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} خوف الغرق بعصف الريح وتقاذف الأمواج {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ} أي ذهب عن خواطر كم كل من تدعونه وترجون نفعه فلا تذكرونه {إِلاَّ إِيَّاهُ} جل وعلا فإنكم تذكرونه وحده سبحانه لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره تعالى لكشف ما حل بكم من الضر استقلالًا أو اشتراكًا فالمراد بضلالهم غيبتهم عن الكفر لا عن النظر والحسن لأنه أمر معلوم من قولهم: ضل عنه كذا إذا نسيه، وفي الكشف هو من ضل عنه كذا إذا ضاع ولا حاجة إلى تضمين أو من ضله فلان ذهب عنه فلم يقدر عليه ذكره الأزهري وأنشد:
والسائل المتبغى كرائمها ** يعلم أني تضلني عللي

أي تفارقني وتذهب عني فلا أتعلل بعلة وهذا أظهر، نعم الضلال راجع إلى الذكر لا بمعنى إضماره فإنه ركيك يقال ضل عن خاطري كذا إذا لم تذكره فإنه ضلال له لا أنه ضلال ذكره ولا تقول ضل عن خاطري ذكره وكذلك ضلني الأمر اه، والدعاء في هذا على ظاهره؛ والاستثناء متصل بناء على أن ما عبارة عن المدعوين مطلقًا وأنهم كانوا يدعون الله تعالى وغيره في الحوادث، وإن كانت ما عبارة عن آلهتهم الباطلة فقط وأنهم كانوا في حالة السراء يدعونها وحدها كما يدل عليه ظاهر ما بعد فالاستثناء منقطع، وفسر الدعاء على هذا بدعاء العبادة واللجأ.
وقال أبو حيان: الظاهر الانقطاع لأنه تعالى لم يندرج في من تدعون إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله تعالى.
وتعقب بأن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضًا لكن على طريق الإشراك بل قولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3] كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم، وقد يقال: إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين الله جل وعلا شرعًا بل قيل إنهم غير عابدين لغة أيضًا لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل.